Menu

رؤيةٌ استشرافيّةٌ للصراع العربيّ الصهيونيّ.. في سياق التحوّلات الدوليّة

الدكتور علي بوطوالة

نشر هذا المقال في العدد 34 من مجلة الهدف الإلكترونية

 

الأمينُ العامُ لحزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي/ المغرب         

تقديـــم

          قدرُ المنطقةِ العربيّةِ منذ تخلّفها عن الثورة الصناعيّة والنهوض الحضاريّ للغرب أن صارت ضحيّةَ مؤامراته، وفقدت زمامَ مصيرِها، وأصبحت العواملُ الخارجيّةُ موجهةً ومقررةً في حياة شعوبها، لهذا السبب تبرزُ الحاجةُ لقراءةٍ فاحصةٍ لما يجري في عالمنا الراهن من تحوّلاتٍ ستكون لها تداعياتٌ أكيدةٌ على مسار ومستقبل الصراع العربيّ الصهيونيّ. إنّ الحرصَ على فهم واستيعاب ما يحدث من تطوراتٍ ومحاولة استشراف آفاقها، تمليه متطلّبات الصراع الوجوديّ للأمّة العربيّة مع الكيان الصهيونيّ  الاستعماريّ والاستيطانيّ الذي أقامته الإمبراطوريّات الاستعماريّة الغربيّة؛ بهدف تعطيل تقدم المنطقة، وتفتيت بلدانها إلى كياناتٍ طائفيّةٍ ونهب خيراتها واستغلال طاقاتها الماديّة والبشريّة.

1- الارتباطُ الوثيقُ بين المشروع الصهيونيّ والسيطرة الإمبرياليّة

           كما هو معلوم، تأسّست الحركةُ الصهيونيّةُ في سياق بروز الدولة الأمة، وغزو الإمبراطوريّات الغربيّة الاستعماريّة للبلدان العربيّة في نهاية القرن التاسع عشر، وبالضبط سنة 1897 بسويسرا، لكن نتائج الحرب العالميّة الأولى، ومنها على الخصوص انهيار الإمبراطوريّة العثمانيّة، هي التي سمحت لبريطانيا وفرنسا بتقاسم السيطرة على المشرق العربي من خلال ما عرف باتفاقية سايس بيكو، علمًا أنّ وعد بلفور بمساعدة بريطانيا للحركة الصهيونية على إقامة وطن قومي لليهود كان قد صدر قبل نهاية الحرب (سنة 1917). هكذا وبتحكمها التام في إقامة وتوجيه أنظمة قطر ية، رجعيّة وعميلة بالمنطقة، وتشجيع يهود الغرب بالهجرة لفلسطين الخاضعة للانتداب البريطاني، خاصةً بعد صعود النازية في ألمانيا وما مارسته من قمعٍ واضطهادٍ لليهود قبل وخلال الحرب العالميّة الثانية. وقد كانت أبعاد ومخاطر المخطط الصهيوني الاستعماري قد انكشفت بوضوحٍ في منتصف ثلاثينات القرن الماضي، مما دفع الشعب الفلسطيني لتفجير ثورته الكبرى سنة 1936، التي قمعتها بريطانيا بشراسة، ودعمت تكوين وتسليح العصابات الصهيونيّة، بدعوى حماية اليهود، تمهيدًا لتأسيس جيش الاحتلال الصهيوني. وبانتهاء الحرب العالميّة الثانية بانتصار الحلفاء، وبروز الولايات المتّحدة الأمريكيّة كأوّل قوّة عظمى تمتلك السلاح النووي، ركّزت الحركةُ الصهيونيّةُ معظمَ جهودها على التغلغل داخل الإدارة الأمريكيّة بواسطة عمل لوبياتها القويّة.

          هكذا وفي وقتٍ ما زالت فيه بلدان المغرب العربي خاضعة للاستعمار الفرنسي، وبلدان المشرق العربي تحت النفوذ البريطاني، أعلنت الحركة الصهيونية سنة 1947، تأسيسَ دولتها بعدما وفّرت كل الشروط وحظيت باعترافٍ ومباركة الدول الخمس الكبرى المتحكّمة في مجلس الأمن الدولي، التي قررت تقسيم فلسطين بين الفلسطينيين واليهود. طبعًا رفض العرب مؤامرة التقسيم، لكن الهزيمة المذلة للجيوش العربية في مواجهة جيش الاحتلال الصهيوني مثّلت صدمةً كبيرةً للشعوب العربيّة، ودفعت بطلائع شبابها للانتفاض والثورة في بلدان الطوق، كانت أبرزها ثورة الضباط الأحرار ب مصر في 23 يوليو  1952، بقيادة الزعيم جمال عبد الناصر.

في هذا السياق، سمحت أجواء الحرب الباردة بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي الإمبريالي بصعود حركات التحرّر الوطني في المنطقة المغاربيّة على غرار باقي بلدان آسيا وإفريقيا، كما تأسّست الأحزاب والتنظيمات القومية بالمشرق العربي (حركة القوميين العرب وحزب البعث العربي الاشتراكي...)، وتحقّقت انتصارات على الاستعمار التقليدي، بحصول البلدان العربيّة المستعمرة كافةً على استقلالها السياسي، باستثناء فلسطين، التي ستنطلق ثورتها المعاصرة في بداية 1965، بسبب الطابع الاستثنائي لاستعمارها الاستيطاني المشرعن من الأمم المتحدة والمدعوم من القوى العظمى!

2 - طبيعةُ العدوّ الصهيونيّ، وأوهامُ التسوية السياسيّة

             بقدر ما خلق الانتصارُ السياسيّ للثورة الناصريّة على العدوان الثلاثي بعد تأميم قناة السويس سنة 1956، آمالًا عريضةً بإمكانيّة تحرير فلسطين، خاصةً بعد تأسيس الجمهوريّة العربيّة المتّحدة سنةَ 1958، بين مصر وسوريا، وبروز حركة القوميين العرب، ثم اندلاع الثورة الفلسطينيّة في بداية 1965، بقدر ما زجّت نكسة 1967، بالأمّة العربيّة في نفقٍ طويلٍ من الهزائم المتوالية والتراجعات الخطيرة، ولم تكن حرب التحريك لأكتوبر سنة 1973، إلا مبررًا لإضفاء المشروعيّة على توجّه السادات اليميني المستند لحساباتٍ قطريةٍ ضيقةِ الأفق كشفتها زيارته للقدس، وتوقيعه لاتفاقية كامب ديفيد المشؤومة، التي أحدثت خللًا فادحًا في ميزان القوى مع الكيان الصهيوني. في السياق نفسه وظّفت باقي الأنظمة العربيّة بخبثٍ ودهاء قرار مؤتمر القمة العربي سنةَ 1974، بالاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينيّة ممثّلًا شرعيًّا ووحيدًا للشعب الفلسطيني، للتملّص من مسؤولياتها القوميّة، والترويج لمشاريع التسوية السلميّة لصراعٍ وجوديٍّ مع كيانٍ استعماريٍّ استيطانيٍّ عنصريٍّ لا يؤمن إلا بالقوّة بدليل رفضه واستهتاره بكلّ القرارات الدوليّة.

واصلت الأنظمة العربيّة الرجعيّة ممارسة الضغوط على قيادة منظّمة التحرير لقَبول ما سمي بمشروع السلام العربي الصادر عن قمة فاس في 9 أيلول 1982، بعد خروجها من بيروت إثر الاجتياح الإسرائيلي للبنان في صيف السنة نفسها.

هذا التحوّل الدراميّ في مسار الثورة الفلسطينيّة والصراع العربيّ الصهيونيّ تزامن مع ظهور مؤشراتٍ قويّةٍ على تأزم الأوضاع في الاتّحاد السوفياتي، الحليف الدوليّ لقوى حركة التحرّر الوطنيّ العربيّة وفي مقدّمتها منظّمة التحرير الفلسطينيّة، وتورّط العراق في حربٍ عبثيّةٍ مع إيران بتشجيعٍ من الأنظمة الخليجيّة.

تضافر العوامل الإقليميّة والدوليّة المحبطة، وتصعيد الكيان الصهيونيّ لانتهاكاته الجسيمة لحقوق الشعب الفلسطينيّ، جعلته يفجّر انتفاضته الأولى التي اشتهرت بانتفاضة أطفال الحجارة. ومرّةً أخرى، تحدث تحوّلات كبرى غير متوقّعة تمثّلت بسقوط دول المعسكر الاشتراكي تباعًا، ثمّ شنّ حرب الخليج الأولى ضدّ العراق بحجّة إخراجه من الكويت ، وانهيار الاتّحاد السوفييتي، وانتهت، بعد ذلك، الحربُ الباردةُ بانتصارٍ ساحقٍ بيّنٍ للمعسكر الرأسمالي الإمبريالي المساند والحامي للكيان الصهيوني. في هذا السياق المطبوع باختلال موازين القوى عربيًّا ودوليًّا، دخلت قيادةُ منظّمةِ التحرير الفلسطينيّة في مفاوضاتٍ سريّةٍ مع حكومة الكيان الصهيونيّ بضغطٍ عربيٍّ وبوعودِ تحقيق تسويةٍ سلميّةٍ برعايةٍ أمريكيّة. أدّت المفاوضاتُ كما هو معلومٌ إلى اتفاق أوسلو الذي لم تطبق بنوده حتى الآن، بل وأصرّت حكوماتُ العدوّ على خلقِ أمرٍ واقعٍ يستحيلُ معه تطبيق حلّ الدولتين. وتأكد أنّ هدف العدوّ الصهيونيّ وحلفاءه كان وما يزال التصفية النهائية للقضية الفلسطينية مقابلَ حكمٍ ذاتيٍّ مشوّهٍ ومجرّدٍ من كلّ مقوّمات السيادة الوطنية.

3- جدليّةُ الاحتلال والمقاومة في ظلّ الأحاديّة القطبيّة

            منحت أحداثُ 11شتنبر/ أيلول 2001 المبررَ المثالي للإمبرياليّة الأمريكيّة لغزو أفغانستان والعراق، وإحكام سيطرتها العسكريّة المباشرة على منابع النفط بدعوى الحرب على الإرهاب، وتزامن ذلك مع صعود اليمين الصهيونيّ المتطرّف إلى حكومة الكيان الصهيوني، الذي صعّد من اعتداءاته على الشعب الفلسطينيّ وتدنيس مقدساته ب القدس الشريف، مما جعل هذا الشعب البطل يفجّر انتفاضته الثانية التي حظيت بمساندةٍ شعبيّةٍ عربيّةٍ واسعة، بل وجمّدت بعض الدول العربيّة علاقات التطبيع التي أقامتها مع الكيان بعد اتفاق أوسلو. موازاة مع نهجه العدواني داخل فلسطين، حاول العدوّ الصهيونيّ توجيه ضربةٍ قاصمةٍ للمقاومة اللبنانيّة سنة 2000، ثمّ في 2006، فألحقت به هزيمة غير متوقعة وتمكّنت من تحرير جنوب لبنان بعد معارك بطوليّة فرضت على العدوّ لأول مرّةٍ طلب وقف إطلاق النار. بعد ذلك استغل الانقسام الذي حصل في الساحة الفلسطينيّة، محاولًا استرجاعَ هيبةِ جيشِهِ بشنِّ حروبِهِ على غزة المحاصرة، واضطرَّ دائمًا لإيقافها أمامَ صمود المقاومة الفلسطينيّة، التي استفادت من تجربة المقاومة اللبنانيّة، وأبدعت في وسائل المواجهة، مما أربك العدو ودفعه للتراجع، خاصةً مع تنامي التعاطف الشعبي على المستوى الدولي، وداخل الغرب نفسه. تحقق هذا الصمود رغم التداعيات الكارثية لما سمي بالربيع العربي على معظم الأنظمة الوطنيّة في المنطقة العربيّة المعروفة بمواقفها القوميّة، ومحاربتها للصهيونيّة، التي بغض النظر عن أخطائها القاتلة في تدبير شؤون شعوبها، أسهمت في دعم كفاح الشعب الفلسطيني، والدفاع عن المصالح العليا للأمّة العربيّة، وظلّت تحافظُ على وجودٍ وتوازن، ولو هشّ للنظام العربي الرسمي.

بعد انهيار هذا الأخير بفعل الضربات الخارجية، وتآمر الأنظمة العميلة، تطور المخطط الصهيو- أمريكي من مشروع الشرق الأوسط الجديد (والكبير) إلى صفقة القرن تحت إدارة ترامب، كأعلى حلقةٍ في فرض السيطرة الصهيو- أمريكية على كامل المنطقة العربيّة.

في مواجهة هذا المخطط الجهنمي، كشف صمود محور المقاومة، بانتصار الجيش العربي السوري بدعمٍ حاسمٍ من حلفائِهِ، في الحرب الدوليّة التي استهدفت إسقاطَ الدولة السوريّة وتفتيت وحدة الشعب السوري وأراضيه، وفشل عدوان التحالف السعودي على اليمن، وخاصةً انتصار المقاومة الفلسطينيّة في معركة سيف القدس التي حقّقت وحدة الشعب الفلسطيني بشكلٍ غير مسبوق، وفرضت معادلاتٍ جديدةً في الصراع مع العدوّ الصهيوني.

4- أيةُ آفاقٍ للصراع العربيّ الصهيونيّ في سياقِ التحوّلات الجديدة؟

          من خلال متابعة التحوّلات الجيواستراتيجيّة، وتحليل المؤشّرات الإحصائيّة على المستويات العسكريّة والماليّة والاقتصاديّة والتجاريّة، تتأكّدُ فرضيّةُ دخول العالم مرحلةً جديدة، مطبوعةً بالمخاض العسير للانتقال من الأحاديّة القطبيّة إلى تعدديّةٍ قطبيّةٍ قطباها البارزان الصين والولايات المتّحدة الأمريكيّة، هذه الحقيقةُ اعترف بها الرئيسُ الفرنسي نفسه في كلمةٍ له أمامَ سفراء بلاده سنة 2019، وتؤكّدها باستمرار التقارير الدوريّة لأشهر مراكز الأبحاث والدراسات الغربيّة، أكيد أنّ الولايات المتّحدة الأمريكيّة ستبقى قوّةً عظمى، ولكنّها أصبحت تواجُهُ صعوباتٍ كبرى داخليًّا وخارجيًّا للحفاظ على دورها كدركيٍّ للعالم، وأصبح هاجسها الأوّل إيقاف أو على الأقل إبطاء صعود الصين، والحيلولة دون قيام تحالف استراتيجي بينها وبين روسيا العائدة بقوّة للساحة الدوليّة في السنوات الأخيرة، التي أكّدت بتدخلها في كازاخستان تصديها الحازم لمنع تكرار سيناريو أوكرانيا لسنة 2014، ورفض تغيير أنظمة تلك المنطقة على طريقة الثورات الملوّنة في شرق أوروبا. وإذا أضفنا لهذا الحدث، أزمة أوكرانيا، والتوتّر المتصاعد بين الصين والولايات المتّحدة، يتبيّن أنّ الوضع الدولي قد يعرف مزيدًا من التأزّم. في هذا السياق تحاول الولايات المتّحدة الأمريكيّة التوصّل إلى اتفاقٍ جديدٍ مع إيران، وإبعادها ما أمكن عن الصين وروسيا، وهذا سر التباين بينها وبين الكيان الصهيوني الذي يهدّد باللجوء للحرب لإيقاف البرنامج النووي الإيراني. أما رهان أنظمة الخليج على التحالف مع الكيان الصهيوني لمواجهة ما تسميه بالخطر الإيراني، فهو رهان على السراب؛ لأنّ قرار الحرب يبقى بيد الإدارة الأمريكيّة التي تجرّعت فشل خططها في أفغانستان والعراق، ولم تعد أولويتها حماية منابع النفط؛ لأنّها صارت أكبر منتج له؛ هذه التطورات تفسر القلق الوجودي المتزايد للكيان الصهيوني، خاصةً وأن معركة سيف القدس قد أبرزت عناصر القوّة الجديدة للمقاومة الفلسطينيّة المتمثلة في الأسلحة الرادعة، ووحدة الشعب الفلسطيني في كلّ مناطق وجوده بما فيها داخل أراضي 1948، وارتفاع منسوب التعاطف الشعبي على المستوى الدولي وداخل البلدان الغربية على الخصوص.

بناءً على هذه المستجدات، هناك من ذهب بعيدًا في التفاؤل لحدّ توقع انهيار الكيان في نهاية العقد الحالي! لكن الرؤية الواقعيّة تفيد أنّ الكيان، وإن أصبح بالفعل يواجه منافسة قوى إقليميّة صاعدة، ك تركيا وإيران التي تمثّل بالنسبة له تهديدًا جديًّا، فإنّ غياب قوة إقليميّة عربيّة رادعة، يجعل الآمال معلقة على محور المقاومة عمومًا وعلى المقاومة الفلسطينيّة بالأساس، مدعومةً طبعًا بجبهةٍ شعبيّةٍ عربيّةٍ قويّةٍ ومتماسكة، كما تؤكّد ذلك دروس كلّ الثورات الوطنيّة المنتصرة.

     الخلاصة: إنّ التحولات الدوليّة الجديدة تمثّل فرصةً تاريخيّةً جديدةً لإلحاق الهزيمة بالمشروع الصهيوني إذا توفّرت العوامل الداخليّة؛ لأنّها تبقى العوامل الحاسمة، وفي مقدمتها إنهاء انقسام الصفّ الوطنيّ الفلسطيني، والتوظيف الجيّد للبعد الحقوقيّ والإنسانيّ في الصراع (قضيّة الأسرى) وكسر الهيمنة الصهيونيّة على الإعلام الدولي، وتشكيل "جبهةٍ شعبيّةٍ عربيّةٍ ضدّ التطبيع والتصفية" كما اقترحت الجبهةُ الشعبيّةُ لتحرير فلسطين، في ارتباطٍ بإحياء وتطوير المشروع النهضوي العربي كأفق استراتيجي لكفاح الشعوب العربيّة في العقود القادمة.